محمد محمود عبد الخالق
أقبل علينا شهر رمضان بما فيه من الخير والبركات والرحمات فهو فرصة لمن أراد النجاخ في الدنيا والأخرة وغنيمة لمن أراد جمع الحسنات ليوم تكون فيه الحسرات على ضياع الأوقات ، فياسعادة من أحسن استغلال هذا الشهر ويا تعاسة من أساء استغلاله أو لم يخرج منه فائزا منتصرا ظافرا بمغفرة الله .
أحبتي في الله. إن من الواجب علينا في هذا الشهر هو أن لا يكون كأي شهر من الشهور بل يجب أن يكون شهرا خاصا نتخذه قنطرة للنجاح في سواه من الشهور ولهذا علينا أن نتربى في هذا الشهر وتبري أولادنا وأهلينا ونربي المجتمع من حولنا ، فرمضان فرصة كبيرة لإصلاح الذات وتغيير النفس والتخلص من الكثير من العادات السيئة والمعاصي المكررة والتي كثرت بين الكثير من أبناء هذه الأمة .
أحبتي في الله ... لا يستطيع الأنسان أن يذكر جميع فضائل هذا الشهر أو أن يحصرها ، ولأن هذا الأمر تحدث فيه الكثيرون فإني أريد أن أتعرض لأمر آخر وهو التربية وبناء النفس في رمضان وألخص ذلك في عدة نقاط :
أولا : التربية على الإخلاص في العمل :-
أحبتي ..قد يقول قائل ماهو الإخلاص الذي يأتي في الكتاب والسنة وفي استعمال السلف الصالح رحمهم الله ..
فأقول : لقد تنوَّعت تعاريف العلماء للإخلاص ، ولكنها تصبُّ في معين واحد
ألا وهو أن يكون قصد الإنسان في سكناته وحركاته وعباداته الظاهرة والباطنة خالصة لوجه الله تعالى لا يريد بها شيئاً من حطام الدنيا أو ثناء الناس .
قال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله ـ يعني الإمام أحمد بن حنبل ـ سألته عن النية في العمل ، قلت : كيف النية ، قال : يعالج نفسه إذا أراد عملاً لا يريد به الناس ..أن يعالج نفسه فإذا أراد عملاً لا يريد به إلا وجه الله تبارك تعالى ..
قال أحد العلماء : نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا : أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى لا يمازجه نفسٌ ولا هوىً ولا دنيا .
عباد الله ..
إنَّ شأن الإخلاص.. إنَّ شأن الإخلاص مع العبادات بل مع جميع الأعمال ، حتى المباحة لعجيب جداً ..
فبالإخلاص يعطي الله على القليل الكثير ، وبالرياء وترك الإخلاص لا يعطي الله على الكثير شيئاً ، ورُبَّ درهم سبق مئة ألف درهم ..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والنوع الواحد من العمل ... والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمن فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله به كبائر الذنوب ، كما في حديث البطاقة ..
وحديث البطاقة كما أخرجه الترمذي وحسنَّه النسائي وابن حبَّان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة .. يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فيُنشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجِّلٍ منها مدَّ البصر ، ثم يقال : أتنكر من هذا شيئاً !! أظلمك كتبتي الحافظون !! فيقول : لا يا ربي ، فيُقال : أفَلك عذر أو حسنة فيها ؟! فيقول الرجل : لا يا ربي ، فيُقال : بلى .إنَّ لك عندنا حسنة ..إنَّ لك عندنا حسنة ، وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيُخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقول : يا ربّي ما هذه البطاقة !.. ما هذه البطاقة ، وما تصنع مع هذه السجلات من الذنوب ! ، فيُقال : إنك لا تظلم اليوم . فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة ، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة ) صححه االذهبي رحمه الله .
ثانيا : التربية على الحياء من الله :
المسلم عفيف حييي والحياء خلق له, والحياء من الأيمان والأيمان عقيدة المسلم وقوام حياته فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الأيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الأيمان " رواه البخاري ومسلم, وسر كون الحياء من الأيمان أن كلا منهما داع إلى الخير صارف عن الشر مُبعد عنه, فالأيمان يبعث المؤمن على فعل الطاعات وترك المعاصي, والحياء يمنع صاحبه من التقصير في الشكر للمنعم ومن التفريط في حق ذي الحق كما يمنع الحيي من فعل القبيح أو قواه اتقاء للزم والملامة, ومن هنا كان الحياء خيراًَ, ولا يأتي إلا بخير كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " الحياء لا يأتي إلا بخير " رواه البخاري ومسلم عن عمران بن حصين.
قال بعض الحكماء: من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه.
قال بعض البلغاء العلماء: يا عجباًَ ! كيف لا تستحي من كثرة ما لا تستحي, وتتقي من طول مالا تتقي ؟!
وقال صالح بن عبد القدوس:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك وإنما *** يدل على فعل الكريم حياؤه
قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء, وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح وبمنع من التفريط في حق صاحب الحق.
ومن كلام بعض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحى منه, وعمارة القلب: بالهيبة والحياء فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير.
قال الفضيل بن عياض: خمس علامات من الشقوة: القسوة في القلب, وجمود العين, وقلة الحياء, والرغبة في الدنيا, وطول الأمل.
وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعا استحيا الله منه وهو مذنب.
وكان يحي بن معاذ يقول: سبحان من يذنب عبده ويستحي هو.
ومن الآثار الإلهية:-
* يقول الله عز وجل: [ ابن آدم.. إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك.. وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك.. ومحوت من أم الكتاب زلاتك.. وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة ]
* ويقول الله عز وجل: [ ما أنصفني عبدي.. يدعوني فأستحي أن أرده ويعصيني ولا يستحي مني ]
ثالثا : التربية على الخشية من الله والبكاء من تلك الخشية :-
فالبكاء سنة عظيمة وعادة لصالحي المؤمنين قديمة، ورثها أصحاب الرسل عنهم، كما ورثها أصحاب نبينا عن رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم.. وقد خطبهم يوما فقال: (( عُرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) قال "أنس": فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه! قال: غطوا رؤوسهم ولهم خَنِينٌ)) [ رواه البخاري ومسلم ].
فهذا الصديق الأكبر لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم الوجع وأذن للصلاة قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف – رقيق القلب – لا يملك دمعه إذا قام يصلي لم يسمع الناس من شدة بكائه. فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فأعادت. فقال: "إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس".
وكان أبو بكر يقول: ابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا، تكلفوا ذلك فإن في ذلك النجاة لكم.
وهذا الذي قاله أبو بكر هو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته كما روى ذلك ابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص بسند جيد: "اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا".
وليس معنى ذلك أن يظهر الإنسان البكاء رئاء الناس ليحسبوه خاشعًا وليس هو كذلك، وإنما المراد حث النفس وتعويدها على البكاء حتى يصير عادة وسجية لها، وكما جاء في الحديث: "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم". فكذلك إنما البكاء بالتباكي والتباكي يستجر البكاء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"[رواه الترمذي بسند حسن عن ابن عباس]. وقال: "لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع"[رواه الترمذي وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة].
وكما كان هذا حال أبي بكر كذلك كان حال عمر بن الخطاب الخليفة الراشد، فقد ورد عنه أنه كان يكثر من قراءة سورة يوسف في العشاء والفجر، وكان إذا قرأها يبكي حتى يسيل دمعه على ترقوته، وقرأها يومًا حتى بلغ قوله تعالى على لسان يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}[يوسف:86]. فبكى حتى سمع الناس نشيجه ونحيبه من خلف الصفوف.
وسمع يومًا آية فمرض أيامًا يعوده الناس لا يعرفون سبب مرضه.
وكان في وجه ابن عباس خطان أسودان من كثرة البكاء.
وخطب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه الناس مرة بالبصرة : فذكر في خطبته النار، فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر! وبكى الناس يومئذ بكاءً شديداً.
رابعا التربية غلى محاسبة النفس :-
فمحاسبة النفس أمر ضروري يعود بالنفع على صاحبه في الدنيا والآخرة، وهكذا كان هدي السلف الأبرار، والسابقين الأخيار، فهذا الحسن البصري يقول : "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته".
وقال ميمون بن مهران : "لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه"، ولهذا قيل : النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك .
وقال ميمون أيضا : "إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص، ومن شريك شحيح" .
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال : مكتوب في حكمة آل داود : "حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات، وإجماما للقلوب".
وقال الحسن : المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه، فيقول : والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه، فيقول : ما أردت إلى هذا ؟ ما لي ولهذا ؟ والله لا أعود إلى هذا أبدا، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله .
وقال مالك بن دينار : رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدا.
وهكذا يجب أن نتعلم محاسبة النقس ونتربى على ذلك ، وإذا كنا لا نتعلم ذلك في رمضان فمتى نعلم ؟ .